تحديات الحكم بعد تحديات الثورة*
الدكتور محمد أمين الميداني**
نتابع في هذه الأيام ما يجري في بعض البلدان العربية مستذكرين انطلاقة الربيع العربي منذ عامين، حيث شهدت العديد من هذه البلدان: ثورات، انتفاضات، تظاهرات، مطالبات، احتجاجات نجح عدد منها في قلب معادلة الحكم وتغيير النظام، وأدى قليل منها إلى إدخال عدد من التعديلات والتحسينات الدستورية والقانونية، وحقق بعضها نصف انتصار مقابل نصف هزيمة، ولا يزال بعضها الآخر في مخاض قد يطول أو يقصر قبل أن تتضح معالمه الجديدة ومعرفة إلى أين سيقود البلاد والعباد.
وبدأت خلال الأشهر المنصرمة مراحل جديدة في تاريخ عدد من هذه البلدان ومعظمها من البلدان العربية الأفريقية، وفًتحت صفحات أخرى في حياة شعوبها ومجتمعاتها، وتبلورت ملامح بدايات لعهود سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية مختلفة عما عهدتها في العقود الأخيرة من القرن الفائت.
ولا جدال بأن الأحزاب الإسلامية، على اختلاف تنوعها وأشكالها وأساليبها، قد نجحت بالوصول إلى السلطة عبر التنافس في الانتخابات، واستلمت مقاليد الحكم في عدة بلدان مثل: تونس، ومصر، والمغرب. وإن كنا لن نبحث في هذه المقالة الأسباب التي دفعت بالناخبين لاختيار هذه الأحزاب، فلا يمكن إلا الإقرار بانتصارها بعد عقود طويلة من الاضطهاد والمطاردة والحرمان والاعتقال والتعذيب وهو ما عرفه معظم قادتها وأعضائها وأنصارها والمتعاطفين معها وبخاصة في تونس ومصر.
ولا نبالغ إذ قلنا بأنها التجربة الأولى لاستلام الأحزاب الإسلامية لمقاليد الحكم بطريقة ديمقراطية في التاريخ الحديث والمعاصر لبعض البلدان العربية. ومن هنا تبدأ التحديات الحقيقية التي تواجهه هذه الأحزاب وقادتها وأنصارها. صحيح أنها واجهت، في الفترة الأولى، تحديات من خلال صناديق الاقتراع، وانتظار نتائج الانتخابات، ولكن الاتجاه العام كان يؤيدها ويتعاطف معها لأسباب متنوعة فجاء انتصارها في تلك الانتخابات. لكن هذا الانتصار يبقى مرهونا بنجاحها في تجربة الحكم، وتقبل تحدياته، وبالتالي تنفيذ برامجها، والوفاء بوعودها والتزاماتها تجاه من صوت لها واختارها أو حتى من ألتزم الصمت ووقف على الحياد، مما سمح لها، في مرحلة لاحقة، باستلام السلطة وتملك أدوات الحكم.
ولعلنا نشير في سياق انتصار الأحزاب الإسلامية أنها كانت تنظر، وربما لاتزال، طوال عقود، وقبل أن تصل لسدة الحكم، نحو التجربة التركية، ونجاح حزب (العدالة والتنمية) بوصوله للسلطة في أكثر من انتخابات، واستلامه لمقدرات الحكم على مدى عدة سنوات. ولكن ليس من الضروري، ما ينفع المواطنين في تركيا في بعض النواحي والأوضاع يمكن أن ينفع حكما وبشكل مطابق المواطنين في البلدان العربية، وما استخدمته الحكومة التركية من أدوات وأساليب قد لا يفيد استخدامه في بعض هذه البلدان، أو لعله لا يأت بالنتائج المرجوة، لذلك يجب أن تكون الأحزاب الإسلامية في البلدان العربية على قدر كاف من الوعي والإدراك وبعد النظر وحسن البصيرة في محاكاتها للتجربة التركية، بل يجب برأينا أن تكون أدوات الحكم وأساليبه وتطبيقاته في هذه البلدان من واقع وأرضية ومناخ المجتمعات العربية وتاريخها بالدرجة الأولى.
أما وقد وصلت الأحزاب الإسلامية للحكم في بعض هذه البلدان، وبعيدا عن أي نقاش أو إبداء رأي أو تشكيك بنتائج الانتخابات التي أوصلتها لسدة الحكم، فلا مفر من التنبيه إلى بعض التحديات التي تواجهها، ولو أننا نعتقد أن بعض تحديات الثورة لا تزال قائمة بشكل أو بآخر- وبخاصة المتعلقة بتحقيق الأمن والأمان والاستقرار للمواطنين -، ولكنها اتخذت صبغة جديدة وشكل آخر يسمح لنا بالانتقال للحديث عن تحديات ما بعد الثورة في بعض البلدان العربية.
ولعل برأينا، من أولى هذه التحديات هو أسلوب التعامل مع مختلف الطوائف وأتباع مختلف الديانات، والأقليات اللغوية والأثنية التي تعيش في هذه البلدان. فيجب أن لا نغفل بداية عما ما كانت تنتهجه الحكومات السابقة، في ظل أنظمة دكتاتورية شمولية مستبدة، من سياسات وتصرفات ومعاملات في حق هذه الأقليات والطوائف وأتباع مختلف الديانات انطلاقا من ادعاءاتها بأنها أنظمة علمانية أو بعيدة عن الدين أو تتصف بالتسامح والعدالة وحسن معاملة الآخر، وإيهام هذه الطوائف والأقليات، وعلى مدار عدة عقود، بأنها الدرع الحامي لها ولمصالح أفرادها. ولا ننكر بأنها نجحت في ذلك، وحققت بالفعل لهذه الطوائف والأقليات حماية فعلية، وسمحت لها بمشاركة عملية في الحياة السياسية والاقتصادية. ومن هنا تتجلى أهمية السياسات التي يجب أن تعتمدها الحكومات التي جاءت من رحم الأحزاب الإسلامية، حيث عليها أن تولي أحوال هذه الطوائف والأقليات وأوضاع أفرادها أهمية قصوى، ويجب عليها أن تنتهج، وبشكل ضروري وجوهري وأساسي، سياسات فعلية تقوم على احترام مبادئ وتعاليم كل الطوائف وأتباع كل الديانات، وتهتم بمطالب الأقليات اللغوية والأثنية، وبمعنى آخر أن تركز بشكل تام وأساس وحاسم على مبادئ المواطنة وعناصر الدولة المدنية وأن تضع نصب عينيها احترام هذه المبادئ وتطبيقاتها، وأن لا يكون هناك أي نوع من التمييز أو المحاباة أو التفريق القائم على عنصر الدين أو المعتقد أو الرأي أو الأصل أو العرق أو اللغة أو المنشأ بين المواطنين.
تحد آخر يدور حول أوضاع المرأة وحقوقها ودورها في العملية السياسية، والتنمية الاقتصادية، والأوضاع الاجتماعية، والحركة الثقافية. ولا يخفى على أحد محاولات عدة تيارات، وبخاصة في البلدان التي نجحت فيها الثورات، لتقليص دور المرأة، أو التقليل من أهمية هذا الدور وحتى تحجيمه في بعض الأحيان. ونرى في هذه المحاولات تقييض لمكتسبات حققتها المرأة حتى في ظل الأنظمة الديكتاتورية، وهي تمثل أيضا إنكارا وجحودا للدور الهام والحيوي الذي لعبته المرأة في الثورات والانتفاضات والاحتجاجات والمظاهرات، وتقطع الطريق على إبداعات جديدة ومكاسب أخرى ستعمل بلا أدنى شك على تعزز دور المرأة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لبلدانها. ولو ألقينا نظرة سريعة على الحياة السياسية في البلدان العربية التي تبدلت أوضاعها، لوجدنا أن تمثيل المرأة ودورها في هذه الحياة لا يزال ضعيفا ورمزيا لأبعد الحدود. أكيد أننا لا ننتظر مثلا أن يكون هناك تساوي بين الجنسين في أعضاء وزارات حكومات هذه البلدان (تتشكل الوزارة الفرنسية الحالية من 34 وزيرا وسكرتير دولة: 17 رجل، و17 امرأة)، ولكن نأمل أن يكون تمثيل المرأة في هذه الحكومات ومؤسسات الدولة، واقعيا وفعليا وملموسا، وأن يكون صوتها مسموعا في تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وأن تتاح لها فرصة المشاركة الفعلية في عملية البناء والإعمار والإبداع.
تحد ثالث يتعلق بتمكين المؤسسات وتعزيز دورها في بلدان الثورات العربية وغيرها. لقد كانت ولا زالت برأينا إحدى مظاهر تخلف البلدان العربية، وعدم نجاح العديد من مشاريع النهوض بأحوالها وأحوال شعوبها وأوضاعهم، هو ضعف مؤسسات الدولة ونقصد بها أجهزة بعينها مثل: الأجهزة القضائية والإعلامية. وتم التركيز بالدرجة الأولى على المؤسسة العسكرية، وكذلك المؤسسة الأمنية. وإن كنا نتفهم تعزيز المؤسسة العسكرية وتقويتها وبخاصة في بعض هذه البلدان التي لا تزال في خضم صراع عربي-إسرائيلي، أو يمكن أن تكون مهددة من جيرانها مثلا، فلا يمكن أن نتفهم تعزيز المؤسسة الأمنية وتقويتها على حساب المؤسسات الأخرى للدولة. بل يجب تقوية الجهاز القضائي وضمان استقلاليته ونزاهته وحياده، ومده بالإمكانيات الأساسية والضرورية للقيام بمهامه وواجباته. ويجب كذلك إعطاء الجهاز الإعلامي الحرية في معالجة مختلف القضايا، لا نقول حرية مطلقة ولكن حرية لها ضوابطها والتزاماتها وأخلاقياتها، والسماح لهذا الجهاز ببسط مشكلات مجتمعات البلدان العربية بكل صراحة وشفافية ومناقشة هذه المشكلات، ولا ننسى أيضا ضمانات حماية الصحفيين من التوقيف أو الاعتقال أو الملاحقة أو التنكيل أو التهديد على أنواعه.
ولا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن تحديات أخرى، وبخاصة اقتصادية هي أيضا على برامج الأحزاب الإسلامية وقد تسلمت مقاليد الحكم. فعلى حكوماتها أن تضع استراتيجية لمعالجة هذه التحديات، ولا يعفي ثقل المهام وجسامتها تلك الحكومات من مسئوليتها، ولا يمكن أن نقبل تعللها في بعض الأحيان بأنها ورثت تركة مثقلة بالديون والفساد والمحسوبية، وهي أوضاع كانت تعرفها حين طلبت الحكم ورضيت أن ترث هذه التركة وتتعامل معها، ويمكن التسامح بإعطائها فترة زمنية لمحاولة التغلب على الصعوبات، وإيجاد بعض الحلول لها ولكن لا يمكن التعلل بها طوال الوقت وجعلها ذريعة لمزيد من التأخر بتحقيق مكاسب اقتصادية ومالية يستفيد منها كل من وثق بها أو صوت لها أو يراقب أدائها، فلا يمكن أن تتنصل من مسؤوليات رضيت بها وقبلت أن تتحملها.
هذه بعض التحديات التي يجب ألا تغيب أبدا عن أذهان من يتقلد المناصب ويتحمل المسؤوليات، وبخاصة في البلدان العربية التي نجحت ثوراتها على الظلم والاستبداد والديكتاتورية والطغيان والفساد، أو حتى في البلدان التي استجاب حكامها لمطالب شعوبها وأدخلوا التعديلات والتحسينات على العديد من أنظمتها، ويجب أن تكون أيضا نصب أعين من يهيؤون أنفسهم لتبوأ المناصب وحمل المسؤوليات بعد أن تنتصر ثوراتهم.
______________________
* نُشرت هذه المقالة في صحيفة (النور)، الصادرة بمدينة أتلانتا، الولايات المتحدة الأمريكية، آذار/مارس 2013.
** كاتب وأستاذ جامعي مقيم بفرنسا.