GERI.Article.Ibn Rahbi.M.A.Al-Midani.201[...]
Document Adobe Acrobat [93.1 KB]

ابن الرّحبي

شرف الدين علي بن يوسف بن حيدرة الرّحبي

(583-667هـ/1187-1268م)

 

الدكتور محمـد أمين الميداني*

 

 

سنقدم في هذه الدراسة علّما من أعلام دمشق، وعالما من علمائها، وشاعرا من شعرائها (1)، جمع بين صنعتي الطب والأدب، وأبدع في مداواة الأجسام، وقرض الشعر، وأسهم كغيره من علماء العرب في تقدم علوم عصره وازدهار فنونها. هو (ابن الرّحبي) الذي قال عنه ابن العبري (2)، انه "كان بارعا بالجزء النظري من الطب" (3).

 

سنبدأ بالتعريف بهذا العالم (أولا)، ونتطرق بعدها للبيئة التي نشأ فيها، والعصر الذي عاشه، ثم ننتقل للبحث في ممارساته الطبية ومؤلفاته في هذا المضمار، وما جادت به قريحته من شعر يصف فيه أحوال زمانه (ثانيا)، ونختم بذكر ما تركه لنا من كتب ومؤلفات ودواوين أشعار (ثالثا).

 

أولا

التعريف بحياة ابن الرّحبي

 

سنتعرف على اسمه، ولقبه وميلاده وتاريخ وفاته، وتعليمه.

 

1- اسمه ولقبه وميلاده ووفاته:

 

هو شرف الدين، علي بن يوسف بن حيدرة الرّحبي المعروف بابن الرّحبي. ولد هذا الطبيب العالم في النصف الثاني من القرن السـادس الهجري، وبالضبط في عام 583 الهجري الموافق 1187 ميلادي، في مدينة دمشـق الفيحاء. أما وفاته فكانت في مدينة دمشـق أيضا عام 667هـ/1268م (4)، ودفن في سفح جبل قاسيون المطل على مدينة دمشق (5).

 

2- إقامته وتعليمه:

 

أقام ابن الرّحبي في دمشق، وتلقى تعليمه على أيدي علماء أفاضل أمثال الشيخ موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي (6)، وحرر عليه ابن الرّحبي كثيرا من العلوم. واشتغل بالأدب على الشيخ علم الدين السخاوي (7). كما تلقى العلم عن أبيه، واقتني كثيرا مما كان يقتنيه، واشتغل بصناعة الطب مثله. وقام بقراءة الكتب وتحصيلها، واهتم بتدقيق الصناعة الطبية، وتحقيق مباحثها الكلية والجزئية.

 

وحظي الأدب باهتمام ابن الرحبي كما ذكر ذلك ابن أبي أصيبعة (8)، فاشتغل به وأتقنه "اتقانا لا مزيد عليه ولا يشاركه أحد فيه" (9). وشهدوا له بالفطرة الجيدة في قول الشعر، فكان يخلو بنفسه يقرأ الشعر ويدرسه، ومما أنشده لنفسه:

 

تساق بنو الدنيا إلى الحتف عنوة ولا يشعر الباقي بحالة من يمضي

كأنهم الأنعام في جهل بعضها بما تم من سفك الدماء على بعض

 

ثانيا

عصره وزمانه ومزاولته لمهنه الطب

 

تميز عصر ابن الرّحبي بالفتوحات الإسلامية والاضطرابات السياسية، ولكن ذلك لم يمنعه من ممارساته للطب، وقرض الشعر أيضا.

 

1- عصره وزمانه

 

ولد ابن الرّحبي وترعرع في العقد الأخير من القرن السادس الهجري، في تلك السنوات الحاسمة التي شهدت أكبر مواقع السلطان صلاح الدين الأيوبي (10)، وعرفت أعظم فتوحاته وانتصاراته والتي انتقل فيها سلطانه بعد وفاته إلى أبنائه وأخوته من بعده.

 

ففي سنة ولادة ابن الرّحبي عام 583هـ/1187م، وقعت معركة (حطين) أكبر معركة في تاريخ الحروب الصليبية، حيث لحقت بالإفرنج هزيمة ساحقة في بلاد الشام أدت إلى تقليص إمارتهم التي انحصرت في آخر المطاف في رقعة ضيقة من ساحل الشام (11).

 

كانت هذه الموقعة إيذانا وبشرى بفتح بيت المقدس وعودتها إلى السيادة الإسلامية. وتم ذلك بالفعل حين دخل صلاح الدين الأيوبي بجيشه الفاتح مدينة القدس أولى القبلتين وثاني الحرمين في يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر رجب من عام 583 هجرية، التي صادفت ذكرى ليلة الإسراء برسول الله (ص) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى (12).

 

وتوالت بعدها انتصارات صلاح الدين وجنده في بلاد الشام إلى أن وافته المنية في دمشق في السابع والعشرين من شهر صفر 589هـ الموافق 12 شباط/فبراير 1193م.

واجتمعت الكلمة على توليه أخيه الملك العادل (13)، بعد أن اضطربت أحوال الممالك حينا من الدهر بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي.

 

وعاصر ابن الرّحبي بداية القرن السابع الهجري، وظهور أمر جنكيز خان، وانتشار التتار في أرض الإسلام. وعاش ابن الّرحبي أيضا عهد الملك الكامل محمد بن محمد بن أيوب (14).

 

2- مزاولته للطب وتدريسه

 

خدم ابن الرّحبي في البيمارستان النوري بدمشق (15)، الذي كان يعدّ من أكثر المشافي شهرة في العالم الإسلامي (16)، وتولى تدريس الطب مدة من الزمن في المدرسة التي وقفها لصناعة الطب الشـيخ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي (17)، وذلك لما عُرف عن ابن الرّحبي من علم وفهم (18).

 

ثالثا

كتبه ومصنفاته

 

ذكر ابن أبي أصيبعة بأن لأبن الرّحبي عدة كتب منها:

 

1- كتاب في خلق الإنسان وهيئة أعضائه ومنفعتها.

 

2- حواش على كتاب القانون لأبن سينا (19).

 

3- حواش على شرح ابن أبي صادق (20) لمسائل حنين (21).

 

وذكر خير الدين الزركلي في الأعلام بأن لهذا الكتاب الأخير تلخيص شرح فصول أبقراط (22).

 

كان ولا يزال التاريخ العربي-الإسلامي زاخرا بسير كبار العلماء من مختلف التخصصات، وتسمح كتب السيرة بإطلاع على حياة هؤلاء العلماء ومساهماتهم وما تركوه من علوم استفاد منها الغرب في مسيرته الحضارية.

 

وابن الرحبي واحدا من هؤلاء العلماء، تذكرنا مسيرته وحياته الحافلة بالأحداث والتغيرات السياسية الهامة التي عرفها العالم العربي-الإسلامي في القرنين السادس والسابع الهجريين، يضاف إلى ذلك ما تركه لنا من علوم برع في عدة فروع منها، وما قرضه من شعر، ومؤلفات تبقى شهادة على مساهماته في تراثنا الذي تقع على عاتق باحثينا مهمة الغوص في ثناياه واستخراج جواهره وثرواته.

 

الهوامش:

* رئيس المركز العربي للتربية على القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، فرنسا. نائب مدير قسم الدراسات والبحوث في الإسلاميات، جامعة ستراسبورغ، فرنسا.

 

(1) سبق وكتبنا عن عالم من علماء العرب توفي مثل ابن الرحبي في مدينة دمشق. انظر، محمد أمين الميداني، "ابن البيطار، ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد"، مجلة (التراث العربي)، مجلة فصلية محكمة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، العدادان 25-26، تشرين الأول/أكتوبر - كانون الأول/يناير 1987، ص 276-289. ويمكن الاطلاع على هذه الدراسة على موقع:

http://www.dahsha.com/old/viewarticle.php?id=26721

(2) هو أبو الفرج ابن العبّري، غريغورس بن أهرون أو هارون بن توما الملطي (623-685 هـ/1226-1286م)، مؤرخ سرياني مستعرب من نصارى اليعاقبة. ولد في ملطية (من ديار بكر)، وتوفي في مراغة (أذربيجان)، ونقلت جثته إلى الموصل فدفن في دير مار متى. أشتغل بالفلسفة واللاهوت، وكان أسقفا لليعاقبة في حلب. صنف في مختلف العلوم مثل: تاريخ الدول، ويُعرف تحت أسم (مختصر الدول)، وهو مطبوع، وكتاب (منافع أعضاء الجسد)، و(دفع الهم) وهو في الأدب والأخلاق، و(منتخب جامع المفردات للغافقي)، وهو مطبوع. راجع، خير الدين الزركلي، الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة عشرة، 2002، الجزء 5، ص 117.

(3) يوسف فرحات، موسوعة علماء العرب، الناشر نزار الكسم، جنيف، الطبعة الأولى، 1986، ص 205.

(4) راجع، الأعلام، الجزء 5، ص 34.

(5) قبر هذا العالم موجود إلى الآن، حيث له مقام متواضع في سفح جبل قاسيون بحي (المزة) بدمشق. انظر بخصوص (المزة)، (تاريخ المزة وآثارها) وفيه (المعزّة فيما قيل في المزة)، للمؤرخ محمد بن طولون، تأليف وتحقيق محمد عمر حمادة،(من دون دار نشر)، دمشق، 1983.

(6) هو عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي البغدادي، موفق الدين (557-629هـ/1162-1231م)، ويُعرف بابن اللباء، وبابن نقطة، من فلاسفة الإسلام، كثير التصنيف في الحكمة، وعلم النفس، والطب، والتاريخ، والبلدان، والآداب. ولد وتوفي ببغداد، وله العديد من الكتب المطبوعة والمخطوطة، ومن كتبه المطبوعة: الإفادة والاعتبار بما في مصر من الآثار. راجع، الأعلام، الجزء 4، ص 61.

(7) هو علي بن محمد بن عبد الصمد الهمداني المصري السخاوي الشافعي، أبو الحسن، علم الدين (558-634هـ/1163-1245م). كان عالما بالقراءات والأصول واللغة والتفسير. أصله من سخا بمصر، سكن دمشق، وتوفي فيها، ودفن بسفح قاسيون. وله العديد من الكتب المطبوعة والمخطوطة، ومن كتبه المطبوعة: هداية المرتاب وهو منظوم في متشابه القرآن ومرتب على حروف المعجم. راجع، الأعلام، الجزء 4، ص 332.

(8) هو موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي، طبيب مؤرخ ولد في دمشق عام 596هـ/1200م. سليل عائلة خرجت عدة أطباء. أقام في مدينة دمشق، وتوفي بصرخد - المعروفة اليوم بصلخد - (حوران - سورية) عام 668هـ/1270م. له عدة مؤلفات أشهرها (عيون الأنباء في طبقات الأطباء). راجع الأعلام، الجزء 1، ص 197.

(9) أبن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، شرح وتحقيق نزار رضا، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، (بلا تاريخ)، ص 675.

(10) هو يوسف بن أيوب بن شاذي، أبو الظفر، الملقب بالملك الناصر (532-589هـ/1137-1193م). ولد بتكريت، وأصله من الأكراد، ونشأ في دمشق وتفقه وتأدب وروى الحديث بها، وحدث أيضا في مصر والإسكندرية والقدس. دخل مع أبيه نجم الدين وعمه شيركوه في خدمة نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، وشارك في حملة وجهها الزنكي للاستيلاء على مصر، وحكم عمه شيركوه مصر بعد انتصاره في حملته، وبعد وفاة عمه اختاره العاضد الفاطمي للوزارة وقيادة الجيش ولقبه بالملك الناصر، وما لبث أن استقل بملك مصر. ودعي إلى دمشق بعد وفاة نور الدين الزنكي فاستقبله أهلها بالحفاوة والترحيب وذلك في عام 570هـ. ثم استولى على بعلبك وحماة وحمص وحلب، وأنشغل بعدها بدفع غارات الصليبيين ومهاجمة حصونهم وقلاعهم إلى أن وقعت موقعة حطين، وانتصاره فيها واسترداده الشام من أيدي الإفرنج إلى أن فتح القدس عام 583هـ. وانتقل صلاح الدين الأيوبي بعدها إلى دمشق ودفن فيها قريبا من المسجد الأموي، راجع، الأعلام، الجزء 8، ص 220.

(11) جوزيف ناصيف، "معركة حطين: خلفياتها ودلالاتها"، مجلة عالم الفكر، منشورات وزارة الإعلام في الكويت، المجلد العشرون، العدد الأول، أبريل-مايو-يونيو 1989، ص 248-249.

(12) محمد عمارة، معارك العرب ضد الغزاة 1187-1807، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة، بيروت، 1988، ص 58 وما بعدها.

(13) هو محمد بن أيوب بن شادي. ولد بدمشق ويقال في بعلبك (540-615هـ/1145-1218م). ولاه صلاح الدين الأيوبي مدينة حلب، واستقل بعد وفاة أخيه بملك الديار المصرية، وضم إليها الديار الشامية وأرمينية وبلاد اليمن، وقسم ملكه بين أولاده بعد أن استقر حاله. وتوفي في دمشق ودفن في المدرسة العادلية ولا يزال قبره معروفا في دمشق. راجع الأعلام، الجزء 6، ص 47.

(14) محمد بن محمد بن أيوب، أبو المعالي، ناصر الدين من سلاطين الدولة الأيوبية (576-635هـ/1180-1238م). ولد بمصر وأعطاه أبوه الديار المصرية، واستقل بحكمها في عام 625هـ. ووسع ملكه فضم إليه حران والرها وسروج والرقة وآمد وحصن كيفا، ثم امتلك الشان، وتوفى بدمشق ودفن بقلعتها، راجع، الأعلام، الجزء 7، ص 28.

(15) لا يزال مكان البيمارستان موجودا إلى اليوم بدمشق في حي (الحريقة)، وقد تم تحويل البناء إلى متحف للعلوم الطبية عند العرب.

(16) جان سوفاجيه، الآثار التاريخية في دمشق، عربه وعلق عليه أكرم حسن العلبي، دار الطباع، دمشق، الطبعة الأولى، 1991، ص 65 وما بعدها.

(17) عبد الرحمن بن علي بن حامد، مهذب الدين، ابن الطبيب (565-627هـ/1170-1230م). شيخ أطباء دمشق ورئيسهم في عصره. خدم الملك العادل، وعالج الملك الكامل، وكانت له رئاسة الأطباء بمصر والشام، له عده تصانيف في الطب، ولد بدمشق وتوفي فيها. راجع، الأعلام، الجزء 3، ص 317.

(18) أبن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص 676.

(19) الحسين بن عبد الله بن سينا، أبو علي، شرف الملك (370-428هـ/958-1037م). المعروف بالرئيس ابن سينا. له مصنفات في الطب، والمنطق، والطبيعيات، والإلهيات. ولد في إحدى قرى بخارى، ونشأ وتعلم في بخارى، وذاعت شهرته، وتقلد الوزارة في همذان، ورحل إلى أصفهان بعد أن ثار عسكر همذان عليه، ونهبوا بيته. وصنف في أصفهان أكثر كتبه، وعاد في أواخر حياته إلى همذان، فمرض في الطريق، ومات بها، راجع، الأعلام، الجزء 2، ص 241.

(20) عبد الرحمن بن علي بن أحمد بن أبي صادق (000-470هـ/000-1077م). أبو القاسم النيسابوري، من أهل نيسابور، لقب بسقراط الثاني، له تصانيف في "شرح مسائل حنين"، و"شرح فصول بقراط"، راجع الأعلام، الجزء 3، ص 316.

(21) هو حنين بن إسحاق العبادي، أبو زيد (194-260 هـ/810-873 م). طبيب، ومؤرخ، ومترجم، من أهل الحيرة في العراق. سافر إلى البصرة فتعلم العربية عن الخليل بن أحمد، وانتقل إلى بغداد فتعلم الطب عن يوحنا بن ماسويه وغيره. تمكن من عدة لغات: اليونانية، والسريانية، والفارسية، وترأس المترجمين مع إتقانه للعربية. حيث كان فصيحا وشاعرا. أتصل بالخليفة المأمون فجعله رئيسا لديوان الترجمة. له عدة كتب منها المطبوع مثل: "الفصول الأبقراطية"، وهو في الطب، و "سلامان وأبسال" وهو قصة مترجمة عن اليونانية، و"الضوء وحقيقته"، وهو رسالة كتبها بالسريانية وترجمها للعربية قيم بن هلال الصابئ. أما كتبه التي لا تزال مخطوطة فمنها: "القول في حفظ الأسنان واستصلاحها"، و"حيلة البرء"، مما ترجمه عن جالينوس. راجع، الأعلام، الجزء 2، ص 287.

(22) المرجع السابق.

 

_________________________